الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهو قادر على ذلك، وذلك قوله تعالى مسوقًا مساق التعليل: {اليوم أكملت لكم دينكم} أي الذي أرسلت إليكم به أكمل خلقي لتدينوا به وتدانوا، وإكماله بإنزال كل ما يحتاج إليه من أصل وفرع، نصًا على البعض، وبيانًا لطريق القياس في الباقي، وذلك بيان لجميع الأحكام، وأما قبل ذلك اليوم فهو وإن كان كاملًا لكنه بغير هذا المعنى، بل إلى حين ثم يزيد فيه سبحانه ما يشاء، فيكون به كاملًا أيضًا وأكمل مما مضى، وهكذا إلى هذه النهاية، وكان هذا هو المراد من قوله: {وأتممت عليكم نعمتي} أي التي قسمتها في القدم من هذا الدين على لسان هذا الرسول، بأن جمعت عليه كلمة العرب الذين قضيت في القدم بإظهارهم على من ناواهم من جميع أهل الملل، ليظهر بهم الدين، وتنكسر شوكة المفسدين من غير حاجة في ذلك إلى غيرهم وإن كانوا بالنسبة إلى المخالفين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود {ورضيت لكم الإسلام} أي الذي هو الشهادة لله بما شهد به لنفسه من الوحدانية التي لمن يتبع الإذعان لها الإذعان لكل طاعة {دينًا} تتجازون به فيما بينكم ويجازيكم به ربكم؛ روى البخاري في المغازي وغيره، ومسلم في آخر الكتاب، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: {اليوم أكملت لكم دينكم} فقال عمر رضي الله عنه: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، نزلت وهو قائم بعرفة يوم جمعة» وفي التفسير من البخاري عن طارق بن شهاب «قالت اليهود لعمر: إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدًا، فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأين أنزلت وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت».وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة وعرفة وعيد اليهود وعيد النصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده، قلت: ويوم الجمعة هو اليوم الذي أتم الله فيه خلق هذه الموجودات بخلق آدم عليه السلام بعد عصره، وهو حين نزول هذه الآية إن شاء الله تعالى، فكانت تلك الساعة من ذلك اليوم تمامًا ابتداء، وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فإذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: صدقت!» فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عاش بعدها إحدى وثمانين يومًا وقد روي أنه كان هجيري النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة من العصر إلى الغروب شهد الله أنه لا إله إلا هو- الآية، وكأن ذلك كان جوابًا منه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، لفهمه صلى الله عليه وسلم أن إنزال آية سر الإسلام وأعظمه وأكمله، وهذه الآية من المعجزات، لأنها إخبار بمغيب صدقها فيه الواقع.ولما تمت هذه الجمل الاعتراضية التي صار ما بينها وبين ما قبلها وما بعدها بأحكام الرصف واتقان الربط من الامتزاج أشد مما بين الروح والجسد، المشيرة إلى أن هذه المحرمات هي التي تحقق بها أهل الكفر كمال المخالفة، فأيسوا معها من المواصلة والمؤالفة؛ رجع إلى تتمات لتلك المحظورات، فقال مسببًا عن الرضى بالإسلام الذي هو الحنيفة السمحة المحرمة لهذه الخبائث لإضرارها بالبدن والدين: {فمن اضطر} أي ألجئ إلجاء عظيمًا- من أي شيء كان- إلى تناول شيء مما مضى أنه حرم، بحيث لا يمكنه معه الكف عنه {في مخمصة} أي مجاعة عظيمة {غير متجانف} أي متعمد ميلًا {لإثم} أي بالأكل على غير سد الرمق، أو بالبغي على مضطر آخر بنوع مكر أو العدو عليه بضرب قهر، وزاد بعد هذا التقييد تخويفًا بقوله: {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {غفور رحيم} أي يمحو عنه إثم ارتكابه للمنهي ولا يعاقبه عليه ولا يعاتبه ويكرمه، بأن يوسع عليه من فضله، ولا يضطره مرة أخرى- إلى غير ذلك من الإكرام وضروب الأنعام. اهـ.
.قال الفخر: قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام}.اعلم أنه تعالى قال في أول السورة {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} [المائدة: 1] ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم، فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم، وهي أحد عشر نوعًا:الأول: الميتة: وكانوا يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله.واعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدًا، فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة.والثاني: الدم: قال صاحب الكشاف كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، فالله تعالى حرم ذلك عليهم.والثالث: لحم الخنزير، قال أهل العلم: الغذاء يصير جزءًا من جوهر المغتذي، فلابد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلًا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات، فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية، وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة، فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق، فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان.الرابع: ما أهل لغير الله به، والإهلال رفع الصوت، ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به، ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد، وكانوا يقولون عند الذبح: باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك.والخامس: المنخنقة، يقال: خنقه فاختنق، والخنق والاختناق انعصار الحلق.واعلم أن المنخنقة على وجوه: منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها، ومنها ما يخنق بحبل الصائد، ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام.واعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه.والسادس: الموقوذة، وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال: وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت، ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات، وهي أيضًا في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فإنها ماتت ولم يسل دمها.السابع: المتردية، والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك.قال تعالى: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} [الليل: 11] أي وقع في النار، ويقال: فلان تردى من السطح، فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت، وهذا أيضًا من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم، ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم.والثامن: النطيحة، وهي المنطوحة إلى أن ماتت، وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما، وهذا أيضًا داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم.واعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع، أعني: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة، كأنه قيل: حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس، والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل.فإن قيل: لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة، وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة، كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل.قلنا: إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها، فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف، تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة، فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الثعلبي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح اللّه عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا: نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال.{والدم} أُجْمِل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال.عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أُحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد».{وَلَحْمُ الخنزير} وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه. {وما أُهلّ به} ذبح {لِغَيْرِ اللَّهِ} وذكر عليه غير اسم اللّه.قال أبو ميسرة: في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ.{والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}، {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ}، {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة}، {والسارق والسارقة}، {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} إلى قوله: {ذُو انتقام} [المائدة: 95] {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} [المائدة: 103، 104].فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتّى تموت.قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه: قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك.قال الفرزدق:والمتردية: التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت.والنطيحة: التي تنطحها صاحبتها فتموت، و«هاء» التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول إستوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أُدخل الهاء هاهنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدرَ أهي صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة. اهـ. .قال الألوسي: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] والمراد تحريم أكل الميتة، هي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه {والدم} أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه.وابن مسعود رضي الله تعالى عنه {وَلَحْمَ الخنزير} إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود.وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غيرب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالاهلال هنا ذكر ما يذبح له كاللات.والعزى {والمنخنقة} قال السدى: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك.وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت.وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقًا {والموقوذة} أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.وقتادة.والسدى، وهو من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه {والمتردية} أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت {والنطيحة} أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل كف خضيب.وعين كحيل وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرئ والمنطوحة. اهـ.
|